وسيظلوا مختلفين: عن الجغرافيا والإسلام واختلاف الحضارات

08-04-2014

وسيظلوا مختلفين: عن الجغرافيا والإسلام واختلاف الحضارات

الجمل- بشار بشير: الدين ابن بيئته ومجتمعه، وعادة ما يكون الدين دامجاً للتعاليم الإلهية مع مختارات من تركيبة مجتمعه الأخلاقية والثقافية. ففي الإسلام قال الرسول (ص):  إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولم يقل لقد جئت بنظام أخلاقي جديد.

المسيحية مثلاً ولدت في بيئة مدنية زراعية تحترم العمل (نبيها (ع) كان نجاراً) لكن عندما انتقلت من بيت لحم والناصرة إلى روما ورغم أن هذا الإنتقال كان من مجتمع مدني زراعي إلى مجتمع مدني زراعي آخر يختلف فقط بأنه أضخم وربما أكثر تطوراً، لم يكن بإمكان روما قبول المسيحية كما هي وكان لابد من إجراء تعديلات عليها لتستطيع الأفكارالوافدة التشبيك مع الأفكار الإجتماعية والسياسية المقيمة. أغلب التعديلات كانت بسيطة بالظاهر وسبب ذلك أنه ربما من الممكن إحداث تغيير إيديولوجي كبير في مجتمع ما ولكن بعض الأفكار البسيطة والعادات الإجتماعية الشعبية من الصعب إجتثاثها . لذلك نجد أن روما غيرت ميلاد المسيح لتجعله في يوم يتناسب مع عيد مهم بالنسبة لها وأبقت على رمز عيدها وهو الشجرة وجعلته رمزاً لميلاد المسيح (ربما يعود أقدم تقديس غربي للشجرة لديانة الدرويد التي كانت منتشرة في إنكلترة وربما منها أخذها الرومان عندما احتلوها، ولا زال الأوروبيون حتى اليوم يقولون كما نقول نحن "دق على الخشب" وهو نوع من التبرك بلمس الخشب أي بلمس جزء من الشجرة المقدسة) كذلك أنشغلت روما بنقاش طويل اختلطت فيه الأسباب الميثيولوجية بالأسباب السياسية  لتحديد ماهية المسيح هل هو إله أم إنسان، في دليل واضح على تمسكها ببعض معتقداتها القديمة عن الآلهة .

وأيضاً أُبقي على الأعياد والإحتفالات المرتبطة بالمواسم وبالخصب وتم إعتبارها أعيادا للكنيسة وللمؤمنين (كعيد الفصح مثلاً) حتى بعض الرموز التي لم تشأ أن تضمحل وتختفي جرى إعادة إستخدامها ولو بشكل مغاير مثل حربة بوسيدون (أو نبتون) إله البحار التي أصبحت الرمح الذي يحمله الشيطان، وأظن غير جازم بأن جزءا من أسطورة مارجريوس وقتله للتنين ترجع لأسطورة بيرسيوس وقطعه لرأس ميدوسا. لست هنا في مجال دراسة التغييرات التي جرت للمسيحية لكي تصبح دين الإمبراطورية الرسمي،  بعض هذه التغييرات أحدثتها الإمبراطورية وبعضها جرى على يد بولس الرسول ليجعل المسيحية أقرب للمزاج الإمبراطوري وهو كان الأخبر به . ما أريد قوله هنا أن الناصرة بمجتمعها المدني الزراعي لم تستطع تصدير أفكارها لمجتمع يماثلها من حيث أنه أيضاً مدني و زراعي وكان لابد من إجراء تعديلات تجعل هذه الأفكار أكثر قبولاً وأكثر تناسباً مع المجتمع الجديد .
في القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب تشكلت مصفوفة من الأفكار من إندماج تعاليم الإسلام مع مجتمع  بدوي رعوي عشائري . انتظمت قبائل وعشائر شبه الجزيرة العربية بموجب الأفكار الجديدة، وكان أول ما فعلوه بعد إنتظامهم أن فرضوا سيطرتهم على منطقة بلاد الشام ناقلين إليها مصفوفتهم الفكرية . لكن مقارنة بما حصل قبل أربعة قرون في روما فإن المسيحية، هناك تغلغلت ببطء على مدى ثلاثة قرون في النسيج الإجتماعي للإمبراطورية قبل أن تصبح فكرها الرسمي بينما الإسلام دخل بلاد الشام فجأة وربما قبل أن يتاح للمجتمع السوري السماع به . لم يتح لبلاد الشام وقتا للتأقلم ولم يكن القادمون الجدد الذين سيطروا على البلاد في وارد منح السوريين فرصة للتأقلم أو تقديم أية تسويات لتقريب الأفكار وللتلاقي في في مكان ما على الطريق إن لم يكن في منتصفه، وهكذا وجد مجتمع مدني زراعي يقدس ويحترم العمل، وهو أول مجتمع أسس دولة ووَضع قوانينها ومؤسساتها، وجد نفسه مضطراً ليرمي كل ما صنعه واجترحه لصالح إعتناق أفكار مجتمع غاية بالتمايز عنه، وهنا سأعود إلى أوصاف المجتمع السوري لأجري مقارنة سريعة:
هو مجتمع مدني، فأول مدن العالم وُجدت في سورية ولعل أمهات المدن هي دمشق وحلب و أريحا بينما تأخرت ولادة المدن في الجزيرة العربية عن تلك السورية آلاف السنين وحتى بعد ولادتها ظل المجتمع محتفظاً بطابعة البدوي العشائري ولم يدخل فعلياً إلى الحياة المدنية ،وهذا يعني وجود تمايز كبير في مصفوفة العلاقات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية بين المجتمعين.
هو مجتمع زراعي، ففي سورية زرعت أول حبة قمح وفيها نشأت أول قرية زراعية وهنا صُنع أول منجل .  الجغرافيا وطبيعة الأرض هي التي تفرض شكل المجتمع، و الجغرافية ذات المياه والأرض الخصبة تنتج مجتمعاً زراعياً لابد، والمجتمع الزراعي يحتاج للعلوم فهو يجب أن يمتلك تقويماً دقيقاً (علم الفلك والمناخ) و قدرة على حساب الغلال (الأرقام و الحساب) و قدرة على البناء (علم الهندسة) . بينما لايحتاج المجتمع البدوي الرعوي لشيء من هذ،ا ولعل التمايز هنا يبدوا جلياً في موضوع التقويم (الروزنامة) فالتقويم السوري السومري - السرياني الذي تصل دقته إلى حدود الربع يوم فيما يتعلق بأحوال الطقس من مطر وجفاف ورياح و صقيع وغيرها هو التقويم الذي يصلح لمجتمع زراعي على عكس التقويم القمري الذي يعتمده أهل شبه الجزيرة العربية، فمثلاً الشهر القمري المناسب للبذار الآن سيصبح بعد عشر سنين هو شهر الحصاد وشهر المطر سيصبح شهر الجفاف . بالمختصر التقويم القمري لا يتمتع بالدقة والإستمرارية التي يتطلبها مجتمع زراعي لذلك نجد أنه ما من مجتمع زراعي يتبعه بل تتبع المجتمعات الزراعية التقويم الشمسي.
هو مجتمع يحترم العمل لأنه قائم على عمل الفلاحين والبنائين والحرفيين كأي مجتمع مدني، بينما المجتمع الرعوي البدوي يحتقر العمل، وكان العرب يربطون العمل من زراعة وحرف يدوية بالعبودية ويأنفون منها، ولا بأس هنا من إضافة العلم للعمل، فهنا ولدت الزراعة و الكتابة والموسيقى وعلم الفلك والتقويم الأول وعلم الحساب وربما الهندسة وهنا كان الأطباء يجرون العمليات الجراحية ويستخدمون الأدوية والعقاقير والأعشاب لمعالجة المرضى في حين كان عرب وسط شبه الجزيرة بعيدين عن هذه العلوم، وطبهم كمثال كان أبن بيئتهم الفقيرة  لذلك كانو يتطببون بألبان وأبوال حيواناتهم حتى جاء الإسلام ونصحهم بالعسل كدواء .
هو مجتمع الدولة والمؤسسات، فالدول الأولى نشأت هنا في بلاد الشام و شُكّلت مؤسساتها ووضعت قوانينها، وشكل الدولة ومؤسساتها الذي أرسته الشعوب السورية القديمة هو الذي لا يزال سائداً بشكل أو بأخر حتى اليوم في كل العالم ، بينما في وسط شبه الجزيرة العربية تأخر ظهور الدولة (المدينة الدولة) خمسة آلاف سنة عن الدول في سورية  ولم يستطع العرب الخروج من مفهوم القبيلة حتى بعد تأسيسهم للدولة، فمثلاً في مجال الحكم كان هناك آليات معتمدة لإنتقال الحكم في الدول السورية التاريخية ونادراً ما كانت تنشب نزاعات أو حروب داخل الدولة الواحدة لأجل الحكم وإن نشبت فهناك مؤسسات يمكنها أن تضبط هذه النزاعات على الأغلب. أما في الدولة العربية التي لم تخرج من مفهوم القبيلة والعشيرة فلم يكن أمام المتنازعين على الحكم إلا الإقتتال العنيف ليثبت كل منهم أحقيته بالحكم وهذا دليل على غياب مفهوم الدولة ومفهوم المؤسسة عندهم لصالح مفهوم الغزو و الحرب . أما مكملات الدولة (أي مؤسساتها) فلم تكن قد نضجت لدى عرب وسط شبه الجزيرة عندما وصلوا بلاد الشام حتى أنهم أستصعبوا هضم هذه المكملات التي كانت موجودة تاريخياً في سورية، فمعاوية بن أبي سفيان مثلاً بعد أن استقر في دمشق أستغرق  سنين طويلة في تعريب الدواوين السريانية ولم يكن نجاحه تاماً، حتى أن بعض الدواوين بقيت غير عربية إلى عهد عبد الملك بن مروان.
باختصار لم يتح لبلاد الشام ما أتيح لروما من وقت و فرص، فقد فُرضت عليها الأفكار الجديدة كتلة واحدة وبشكل مفاجئ، واضطر المجتمع المدني الزراعي للتخلي عن كثير من أفكاره وعاداته و أساطيره وتاريخه لصالح أفكار متمايزة عنه، ليعمل فيما بعد وعلى مدى أربعة عشر قرناً على محاولة العودة إلى منتصف الطريق علَّ الأفكار الوافدة تلاقيه هناك، ولربما حقق نجاحاً جزئياً بهذا (الأستاذ نبيل صالح وبعض السادة العلماء سموا ناتج هذا النجاح الجزئي:  الإسلام الشامي).
الخلاصة أنه بعد أربعة عشر قرناً من العمل لتمثّل الجزء الجيد والمناسب من الأفكار التي وصلتنا و محاولة تعديل الجزء البدوي الرعوي من هذه الأفكار لتتناسب مع مجتمع مدني زراعي منذ ولادته، أتانا من يريد أن يشطب كل ما حُقق ويعود بنا إلى الوراء إلى زمن قديم ومنغلق لم يكن متوافقاً مع المجتمع السوري منذ ألف سنة فمابالكم بمجتمع اليوم . ولا يظنن أحد أني أتحدث هنا مواربة عن الإسلام، بل الحديث عن مصفوفة فكرية وأخلاقية تابعة لمجتمع يعيش في الصحراء على شكل تجمعات قبلية وعشائرية ويمتهن أغلبه الرعي و بعض أعمال التجارة البسيطة مع أقلية لا تذكر تعمل بالزراعة وأنا هنا لا أنتقده ولا أمتدحه أنا أوصِّفه فقط، أما الإسلام الذي يعتبر جزء من هذه المصفوفة فقسم كبير منه هو أخلاق إنسانية راقية و عامة تصلح لأي مجتمع بينما الجزء الآخر هو أبن بيئته البدوية وهذا الجزء هو ما نتكلم عنه، وأكثر هذا الجزء لا يتعلق بأسس الدين بقدرما يتعلق بالأحكام الحدودية (أي بما سمح الدين أن يُناس بين حدوده بحيث يختار كل مجتمع ما يناسبه)  وبالعادات والموروث الإجتماعي الخاص بمجتمع شبه الجزيرة.
يريد البعض لسورية بمجتمعها المدني المتنورالمتلاقح مع كل الحضارات أن تعود لزمن موغل بالقدم وتتقوقع وتتقولب ضمن شكل مجتمع شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ظاناً أن النجاح ورضى الله  كائن في عمله هذا ناسياً قوله تعالى:  ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين . هود 118  

أرجوا الإنتباه إلى كلمة "ولا يزالون" فهو لم يقل "ولا زالوا" بصيغة الماضي بل اعتمد صيغة المضارع المستمر, أما "مختلفين" فأغلب الظن أن المقصود بها أنهم متمايزون عن بعضهم البعض وليس المقصود الخلاف والتناحر والله أعلم.        

التعليقات

اعتقد يحتاج الكاتب ان يرجع الى الحضارة البابلية ,لان العالم بدا من بابل ,لان هناك بغض الملاحظات اقتصرت على سوريا فقط مع ان الحضارة البابلية واسعة ومنها نشات القوانين واسس الدولة الحديثة,لان اغفال هذه الحقيقة يضيع على القارئ حقائق كثيرة فياحبذا لو عرج الكاتب على التاريخ البابلي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...