اعتصار الرحلة... اختمار التجربة

26-04-2006

اعتصار الرحلة... اختمار التجربة

من غير مقدمات ترويجية، أو تعليقات استنسابية، فان عملاً فلسطينياً موازياً لامتشاق البندقية، يضع نفسه بجدارة في بؤرة الانتاج الفكري، السياسي والوقائعي، لمسيرة الكفاح الفلسطيني، بدءاً من ذاكرة الأسنان اللبنية تحت رعاية بطاقة الأونروا … وانتهاء باستراحة المحارب المعللة فتحاوياً، مع استخلاصات ونتائج، يمكن البناء عليها.

ان ماقام به، الأخوان الفلسطينيان علي بدوان، ونبيل السهلي، بسلسلة من جزئين تحت عنوان عريض، وقائع من المسيرة الفلسطينية، يعتبر بحق، بمثابة رد أمانة مؤداة، على طريق ايقاد الذاكرة الجمعية، لشعب ينهض من الخيمة المجبولة مع طين الشتاء، أو من تحت أعمدة الكهرباء الرصيفية… ثم ليصبح بعد طول انكسار، في مصاف رواد الاختصاصات في الشتات، من كليفلاند الأمريكية، أو وكالة ناسا، ثم من جنين الى الخليل، وصولاً الى مابين المحيط والخليج …

كان الفلسطيني يعرف، بعد طول انتظار، انه لم يعد أمامه سوى التحصن بزاد العلم، وأن ما فقده لايرد اليه، الا بما تقدمه له ذراعه، وان الوعود النظامية الرسمية، لم تكن كرمى لعيون فلسطين، قدر ماهي تشريفي، يمارسه الحاكم العربي، لاسباغ الشرعية والمشروعية، ثم لادامة دست العرش له ولذريته من بعد. ففي شقاء النحطات الفلسطينية الساعية للتحريريكفي القول، بأن رواد الشهادة في العمل الفلسطيني المقاوم، انما سقطوا برصاص أنظمة الطوق، وأن التعلل بالخطأ غي المقصود، تنسفه حالة نظامية مستديمة، ظلت تقول بمسؤولية الحفاظ على أمن الحدمد مع اسرائيل، بدءاً من الهدنة الأولى، ومروراً بأيلول الأسود، وانتهاءً بالحرب الأهلية اللبنانية المفتعلة التي انتهت برد منظمة التحرير على أعقابها، مع تحية من واشنطن (باي باي) منظمة التحرير.

وتكاد المسيرة الفلسطينية في جزئي الأخوين بدوان والسهلي، من كتائب شهداء الأقصى الى الحطام والقيام، تملأ الشاغر النسقي في تدرج القيام، على أنقاض الحطام في كرت الاعاشة، وجلوس الشيخ المعتر أمام الخيمة المزرية. فقد تم التهيؤ في حشد وقائع مضنية على الطريق الطويلة من الأسنان اللبنية، الى استعراض مئة وثمانية وخمسين ( تنظيماً وحركة وحزباً وجبهة وتحالفاً وعصبة وكتيبة وسرية ..) بأسماء من الفهد الأسود الى النسر الأحمر … وما ضاقت الأرض بما رحبت، مما يعني أن القبض على الورقة الفلسطينية، من قبل بعض الأنظمة العربية، كان في محل اهتمام استثنائي، وان اهداء الضفة لملك الأردن، واهداء قطاع غزة لملك مصر، انما جاء يعلل الوثبة المراوغة، بدءاً بظاهرية التحرير، مروراً بالهدنة، وانتهاء بالقسمة والتقسيم لحساب الأردن ومصر واسرائيل .. بعيداً عن مصير القضية والشعب، ولمدة سبعة عشر عاماً، فان بيرق القضية الفلسطينية، ظل يرفرف في سماء المناسبات والانقلابات والمراوغات … الى أن أطل الحلم الفتحاوي، معززاً بكاريزما الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فاضطرت المراوغة للتوقف ولكن الى حين.

كان مشروع عبد الناص، يتمركز في اعادة تسليم القضية لأهلها، مع حرص على الدعم بكل ممكنات القطر المصري، حتى لو أدى الأمر، الى خوض حرب مع اسرائيل، ولم تكن الأنظمة العربية الأخرى ـ بشكل خاص بعد انفصال الوحدة السورية المصرية ـ على استعداد للتعامل مع القضية المصيرية، الا على شكل (ورقة) حسابات بمبدأ النفع السلطوي الاقليمي ليس أكثر، فما ان خبا نجم الراحل عبد الناصر، ودار الزمن دورته الانقلابية الجديدة، حتى كانت مصر السادات بعد تشرين … تتحدث عن كسر جدار الخوف (مع اسرائيل)، وليبيا القذافي تتحدث بهزء عن حرب التحرير الشعبية، وتفيض في قاموس شتائمي ضد الرئيس الشهيد (جمل المحامل) عرفات، ثم مالبث البعث في العراق، أن تقدم بخطوات دموية، لاحتكار القضية واقصاء عملها الفدائي، وتنظيف الساحة الا من أنصار الموالاة لبغداد … وكان الأردن يستبق الباب، في مجزرة نهائية عنوانها محاولة الفصائل الفلسطينية قلب نظام الحكم الملكي، متذرعاً بأخطاء طفولة يسارية أو يمينية، ليست هي كتلة المقاومة أوقلبها.

ويقتصر العمل الريادي في مؤلفي بدوان والسهل، على ملامسات خجولة، عند الحديث على محاولات الاحتواء العربية ـ الرسمية، بدءاً من مشروع الضفتين الشرقية والغربية على يد المرحوم الملك عبد الله ومشروع القطاع اضافة الى ملكية مصر والسودان … ثم انتهاء بحكام مرحلتنا الراهنة، وذلك كما هو وارد في الصفحة 35 في نؤلف الحطام والقيام.

وقد نلتمس العذر في تجنب ولوج التفاصيل، كون الناشر في دمشق، هو مؤسسة الأهالي للطباعة والنشر، لكن الدخول الرسمي العربي في شؤون المسيرة النضالية الفلسطيني، لم يتوقف حتى بعد الاعتراف بالشرعي والوحيد في الرباط، ولأن هذا الدخول (التدخل) أدى الى فائض من الدماء الفلسطينية في ساحات

تل الزعتر، والبداوي ونهر البارد، ثم الى مزيد من الدماء في حرب المخيمات على يد منظمة أمل، وقبلها أو بعدها، مجازر عين الرمانة وصبرا وشاتيلا … على يد قيادة سياسية مارونية سوداء، فان مخزون الدم الفلسطيني، كان يسيل بسخاء، في مواقع غير مواقعه … وفي هذا مايخدم الهدف الاسرائيلي في التحليل الأخير، ومع تراكم الاشتباكات الداخلية، سواء بالقلم أو الرصاص، فان تأكلاً خفياً، كان يوهن، في كل مرحلة، ارادة النهوض.

وفي مدريد، وكانت الدماء شعب الرافدين لم تجف يعد، كان الوفد الفلسطيني، يختبىء خلف العلم الأردني، لأن اسرائيل رفضت الجلوس مع وفد فلسطيني خاص.

كانت أوسلو، وريثة الاستخذاء الرسمي العربي، الذي انضم الى حفر الباطن، لكنه لم ير القدس، الا على الخريطة فقط، وفي صبوات، الدعاء من أجل الصلاة في المسجد الأقصى، حتى لة بقي تحت حراب أحذية موشيه وشارون.

ويتهم المحنكون من دهاقنة(الملك العضوض) من (نشامى) الوعامات العربية، منظمة التحرير، بأنها هي التي أرادت أقلمة القضية الفلسطينية، بدعوتها للقرار الوطني الفلسطيني المستقل. وكأن فلسطين مسألة دعوى وادعاءات، وليست هي بؤرة الصراع العربي الاسرائيلي، التي خيضت بسببه خمسة حروب رسمية، ومئات الاشتباكات المسلحة، وآلاف الشهداء من أمة الضاد فوق روابيها...

الآن، وفي القرار الفلسطيني المستقل، أصبحت قضية الصراع الكبرى، محكومة بين فلسطينيين واسرائيليين، أما أنظمة امتشاق السيوف الكلامية، فاما في محل وسطاء أو متفرجين، وقد قالها شهيد فلسطين أبو عمار، قبل سنوات من اغتياله ( ان ثلوج جبل الشيخ أدفأ لأرواحنا من مواقف بعض الأنظمة العربية). ولهذا جاءت خطة شارو، بعد تزاحم الخيبات في التراكم (ضم 58% من الضفة الغربية اضافة الى مساحة فلسطين الأصلية).

لم تكن خيبات العمل الفلسطيني المقاوم، مؤطرة في ذاتها ولذاتها، فالعامل الاطاري العربي، كان له أبلغ الآثرفي تشظيات الجهد الفلسطيني الوطني، ومانراه فوق الساحة الداخلية الفلسطينية اليوم، انما هو امتداد للغيوم السوداء، فوق حقل فلسطيني يريد أن يتفاهم، فالمحورية الاقليمية العربية المتنابذة، تجذرت في وجهات وتنظيرات وفلسفات … قوى مرتهنة لهذه العاصمة أو تلك، والمشكلة أن ساحة الصراع، تدور فوق الأرض الفلسطينية المحتلة، والتي هي بأمس الحاجة، الى تضامن وطني متحد، ويبقى في حكم البدهيات، أن الاحتلال، يفرض حالة وطنية جامعة، لايجوز للفروق أن تهددها، فلايسار أو يمين وسط، ولا اسلامية أو قومية أو وطنية، ولامحازب أو مستقل … خارج الوعاء الوطني المقاوم، وهكذا فعلتجميع شعوب العالم في تاريخ التحرر، على أن تمنح المقاومة الفلسطينية من جذر (أوجذور)، نظام (أو أنظمة) وطنية مجاورة (وحتى الآن لاهانوي عربية)، لكنه شرط افتراضي كان قد وضعه الاستراتيجي الألماني كلاوزفيتز، حتى ان افتراضاته (باتت) بمثابة قوانين لأية حرب شعبية، ولابد هنا من استرداد بعضها : ( أن تدار العمليات من داخل البلاد كأساس، وأن تكون مساندة الشعب للثوار مساندة شبه اجماعية، وأن تمتد رقعة العمليات على رقعة واسعة تتجنب الموضعية، وأن يتضامن أجزاء الجوار الجغرافي مع الحرب الشعبية).

ولانسوق هذا، الا بغرض اجراء مقاربة، فالعمل الفلسطيني المسلح، تنقصه ضرورات وحتميات، وهي ليست دعوة لمناهضة المقاومة كما يمكن أن يخرج علينا، أحد مزاودي المقاومة في السياسة، لكن ما يقترحه علينا الأخوان بدوان والسهلي، يمكن أن يشيد منبراً حوارياً، مع الاشارة الى أن واقع المقاومة الفلسطينية، لايماثل مع واقع المقاومة العراقية، لأسباب وشروط وظروف (مع مساحات وكثافات سكانية)، مع فارق في طبيعة الاحتلال الأمريكي عنه في الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين.

أما المنبر الحواري في الدعوة المذكورة أعلاه، فيقول (ان الموقف الأقرب للنضج والاعتدال يقر بأن تطور العمل الفلسطيني المقاوم، في ظل انتفاضة الأقصى والاستقلال، يجب أن يساير بالضرورة حركة الانتفاضة ذاته، مع الحفاظ على طابعها الجماهيري الواسع، فالوقوع في مطب عسكرة الانتفاضة ـ مع انتفاء شروط نجاحها لانكسار مفجع في التكافؤ ـ يجلب كوارث اضافية … ويضعها وجهاً لوجه أمام آلة كلية التدمير … مقابل شعب شبه أعزل).

فالعمل العسكري في صفوف الانتفاضة، يجب أن يأخذ بناصية استراتيجية دقيقة، تنبع من أهمية الحفاظ على ديمومة (عدم انقطاع) الطابع الجماهيري العصياني لرفد الانتفاضة، وهو مايتطلب دخول أوسع قطاعات الشعب وطبقاته وفئاته وقواه … فيما يتم توجيه العمل المسلح، لاستهداف قطعان المستوطنين وقوات الاحتلال في الأرض المحتلة بعد كارثة حزيران 1967. وهي دعوة بداية لانهاية.

في وقائع المسيرة الفلسطينية المكتظة، بقلمي علي بدوان ونبيل السهلي، ما يبعث على ايقاد الجذوة، فوق ضريح الجندي الفلسطيني ـ العربي المجهولأ الذي استشهد بلا ضجيج أو تأبين … كما هي منارة للشهداء الكبار ممن عاشوا من أجل فلسطين، وأستشهدوا في سبيلها.

انها الذاكرة المستردة، في أدغال وتاريخ، وصفوف منتظمة دون مهرجان وداعي … انها النضالات والمساعي والاخفاقات والنجاحات والآمال والاحباطات والقفزات والارتدادات … شجرة الحياة الواقفة، لشعب عنيد (شعب الجبارين) ربما بدءاً من ثورة البراق، وليس انتهاء بثورة الأقصى … انه الشعب الذي صمم ـ رغم المستحيل ـ على بلوغ الهدف الغالي، انتزاع الهوية واسترداد التاريخ والكرامة.

 

حمدان حمدن

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...