ندوة نقدية حول أعمال حيدر حيدر

28-05-2006

ندوة نقدية حول أعمال حيدر حيدر

من آلام الناس وآمالهم، من أحلامهم وهزائمهم، يغزل حيدر حيدر أعماله الروائية والأدبية..هذه الأعمال التي شكلت في بعضها  كـ«الزمن الموحش» «وليمة لأعشاب البحر» وغيرها منعطفات هامة داخل الرواية السورية خصوصاً والعربية عموماً..ورغم الأهمية الكبيرة التي شكلتها أعماله داخل الساحة الأدبية وداخل قلوب ملايين القرّاء على امتداد الوطن العربي إلاّ أنها بقيت خاضعة إما لتجاهل، أو لتعالٍ من قبل النقاد المحليين وليس العرب، يقول حيدر حيدر: «القرّاء في هذا البلد أعطوني أكثر مما أستحق بعكس النقاد، فالنقد كان إما متعالياً على نصي الأدبي أو متجاهلاً له».
غير ان هذه العلاقة غير الصحية والمتشنجة بين أعماله وبين النقاد المحليين يبدو أنها في طريقها الى الاسترخاء حيث أقامت كلية الآداب بجامعة دمشق مؤخراً ندوة نقدية تناولت أعمال الروائي حيدر حيدر بمشاركة كل من: الدكتور رضوان قضماني، مالك صقور، مراد كاسوحة وبإدارة الدكتور عبده عبود.
في البداية تحدث د. قضماني عن الدور الذي لعبه حيدر حيدر في مسيرة تطور الرواية السورية وفي النقلة التي أحدثتها بعض أعماله داخل هذه المسيرة يقول قضماني:«شكّل حيدر حيدر نقلة في تاريخ تطور الرواية العربية السورية إذ خرجت عن تلك الأشكال كلها (السائدة) لتنتسب الى تيار الوعي بدءاً من رواية «الزمن الموحش» الصادرة في أوائل السبعينيات بعد هزيمة حزيران 1967، فكانت انطلاقة جديدة للرواية العربية بعد الهزيمة باعتمادها تيار الوعي..»، وتيار الوعي كما يقول قضماني  أسلوب يقدم مدركات الشخصيات وأفكارها كما تطرأ في شكلها الواقعي العشوائي، وهو تقنية تكشف عن المعاني والاحساسات من دون اعتبار للسياق المنطقي أو التمايز بين مستويات الواقع المختلفة، وهو فن في وصف الحياة النفسية الداخلية للشخصيات بطريقة تقلد حركة التفكير التلقائية التي لا تخضع لمنطق معين ولا لنظام تتابع خاص، ويجري المؤلف على هذا التيار عملية اختيار مبدئية واعية، إذ أنه لا يختار من عناصره سوى ما يتفق ومقتضيات روايته من حدث نفسي أو رؤية أو حلم..أو ملاحق، مثل مراثي إرميا أو بعض القصائد النثرية-كما في «الزمن الموحش»..وقد يستند الى تداعي الذكريات ثم الحلم في تقنية رصد الوعي عند شخصياته.
وهكذا ووفقاً لما أورده القضماني عن تيار الوعي، فهو يرى ان حيدر في استخدامه لهذا التيار في رواياته لم يكن مقلداً لرواده في الغرب ولا ناقلاً لأسلوب جيمس جويس في روايته «يوليسيز» بل كانت له مسيرته الخاصة التي تطورت فيها هذه النزعة عبر روايات أربع: (الزمن الموحش، وليمة لأعشاب البحر، مرايا النار، شموس الفجر) حيث شكلت هذه الروايات مفاصل أربعة مرت بها المسيرة الروائية عند حيدر حيدر، بدأت «بالزمن الموحش» التي يبدأ السرد فيها بضمير المتكلم، فالراوي السارد هو الشخصية التي تتحدث عبر تداعي الذكريات ثم الحلم في تقنية رصد تيار الوعي لتجاربها وتجارب الرفاق الآخرين في واقع التسكع والضياع الذي يعيشونه، بين التنظير الايديولوجي والخمر والنساء، حيث يتقاطع الصحو/المحو: الارتطام بالواقع/الضياع، الحلم/ الانكسار، ويضع أسلوب تيار الوعي الحدث في المكان الثاني، لأنه يضع تقديم مدركات الشخصية وأفكارها في المقام الأول، وبذلك تتراجع الحبكة الى المكان الثاني لتتقدم عليها التداعيات ورصد الرؤيا والحلم، وتداخل صوت الراوي/المؤلف مع صوت السارد/الشخصية..إنها النقلة الأولى في تطور الرواية السورية تمت بعد هزيمة حزيران 1967 باستخدام تيار الوعي..

أما المفصل الثاني في تطور أسلوب تيارالوعي فقد شكلته رواية وليمة لأعشاب البحر، حيث زاوجت أسلوب تيار الوعي مع أسلوب تعدد الأصوات الذي مزج أصوات الشخصيات بصوت الراوي، فتداخلت أصوات الشخصية ليصل القارىء عبر ذلك الى العطب الداخلي في تجارب شخصياته (تجربة الحزب الشيوعي العراقي، تجربة الثورة الجزائرية) .
وبخصوص مرايا النار، المفصل الثالث في مسيرة تطور أسلوب الرواية عند حيدر حيدر باستناده الى تيار الوعي، فالرواية برأي القضماني لا تخرج عن هذه النزعة، ولكن دون ان تكون تكراراً لبنية الروايتين الأوليتين، حيث أتت رواية لا تلتزم بزمن معين، بل تقفز من زمن هذه الشخصية الى زمن تلك تتراوح بين داخل الشخصية وخارج المكان الروائي تتردد بين قراءة باطنية للشخصيات ونكهة الضباب الداكن..أما المفصل الرابع في سيرورة الرواية عند حيدر فهي «شموس الغجر» التي يغتني أسلوب تيار الوعي فيها بتقنيات ولغات قادرة على الغوص في الأساطير المعاشة للبشر وأزمانهم الراهنة العميقة التي تمتد الى الماضي لكن بؤرتها ومركزها الواضح هو الواقع الراهن، وتتجه نزعة تيار الوعي نحو تعميق الشكل الواقعي للرواية حيث تتجسد فيها القضايا الكبرى التي ينشدها القارىء العربي.
ويخلص قضماني الى ان روايات حيدر شكلت نصاً روائياً يحاور ما سبقه، ويضيف إليه الجديد نصاً يبدو فيه الماضي زمناً انقضى ويبدو الحاضر زمناً مخيباً نصاً تتجسد خصوصيته في تمثل الذات الانسانية الحرة التي تخلف وراءها شيئاً فشيئاً زمن الكليات المغلقة لتدخل زمن الخصوصيات المفتوحة.

عصارة فكر إبداعي
«مراثي الأيام» كانت موضوع قراءة للناقد مراد كاسوحة حيث رأى فيها كما شقيقاتها الأكبر سناً«أي روايات حيدر الأخرى»، إذ تشكل أغصان شجرة وارفة الظلال حملت في نسغها عصار فكر إبداعي متميز في عالم الرواية العربية، يقول كاسوحة: «هذا العمل عبارة عن ثلاث حكايات أو قصص طويلة تحكي عن التاريخ وعن الحاضر وتعزف كلها على الوتر ذاته الذي تعودنا في روايات سابقة على الاصغاء الى ألحانه بشغف، إنه الصراع الأبدي بين الخير والشر، والوضع المأساوي للانسان العربي الذي كتب عليه ان يعاني من الاضطهاد والقمع والتشرد والمجاعة والسجن، والمنفى ما جعله يطرح تساؤلات دائمة ما اذا كان هذا الشرط الانساني قد تحول الى قدر سيزيفي لافكاك منه»..
في حكايات المراثي-كما يقول كاسوحة- نجد تاريخ الوطن العربي قديمه وحديثه والذي عاش، ومايزال تحت هيمنة أنظمة مستجدة قضت على الحريات وهمشت الديمقراطية، في حين أطلقت كامل الحرية للفئات والشرائع الطفلية حديثة الثراء التي هيمنت بسرعة جنونية على ثروات أوطانها طاوية سلطة القانون مدشنة عصر الانتهازية بأبشع صوره، وهكذا أصبح المواطن همه الأساسي لقمة العيش وأما المثقف فلم يعد أمامه إلاّ خياران إما البقاء صامتاً أو مهاجراً الى بلدان الاغتراب بحثاً عن مصدر للرزق وتوقاً للنطق بكلمة تجد لها مكاناً في صحيفة أو كتاب أو منتدى دون ان تخضع للرقابة.
ففي «مراثي الأيام» تنتزع القداسة عن بعض الرموز التاريخية من خلال الحقائق التي يظهرها المؤلف، لقد هدف حيدر الى تكثيف التاريخ وأخذ العبر منه وبالتالي اسقاطه على الحاضر عبر صور فنية مليئة بالرموز والدلالات، وقد جاءت هذه الرواية نتيجة مصادفة غريبة كما يقول حيدر أثناء قراءته لتاريخ الملوك والأمم للطبري..
وبخصوص السرد يقول كاسوحة: يتناوب السرد روايات الراوي التاريخي والراوي المعاصر، فالأول يعرض الحدث كما جرى حرفياً نقلاً عن كتب التاريخ الموثقة، والآخر المعاصر الذي لا يكتفي بقراءة التاريخ بل يدخل الى عمق الحدث يحلله ويقارن بينه وبين ما حدث في الماضي فهو الراوي الذي يقرأ مابين السطور..كما أشار كاسوحة الى الغاء حيدر للحدود الفاصلة، بين لغة النثر ولغة الشعر، يقول:«استطاع حيدر عبر أسلوب وصفي متميز ورفيع بكل تضاريس  الحياة بلغة مشحونة بطاقة خلاّقة وفاعلة ميزته عن غيره من كتّاب الرواية ان يوصل أفكاره بكل سهولة الى القارىء، لقد حملت اللغة في «مراثي الأيام» قيمة فنية وجمالية رفيعة، إضافة الى وظيفتها التوصيلة كحاملة فكر..فلغة الكاتب المشرقة، يضيف كاسوحة، جعلت النص الروائي يسير وفق إيقاعات لها قوة وخاصة الاختراق للواقع، وليس مجرد العوم على سطح..وبقدر ما ابتعد حيدر عن البلاغة اللفظية بقدر ما ابتعد عن التبسيط معتمداً الأسلوب التحليلي الباحث عن الجوهر الكامن خلف الظواهر بواسطة لغته المنداة بنكهتها الشعرية المميزة التي شكلت قفزة نوعية في التجديد الفني لشكل ومضمون الرواية العربية الحديثة..

إيقاع الحرية والثورة
تحت هذا العنوان قدم الناقد مالك صقور قراءته في أدب حيدر حيدر يقول: الحديث عن أدب حيدر يعني العودة الى خمسينيات القرن الماضي الى الأحلام الكبيرة التي عاشها العرب بعد الاستقلال، وكيف انكسرت هذه الأحلام القومية فيما بعد لتتابع الفواجع والنكسات والهزائم، والمآل الذي آلت اليه الحرية وسط ذلك كله، الحرية المحور الأساسي الذي عزف عليه كاتبنا من خلال الهم الطبقي أولاً، والهم الوطني القومي ثانياً، والتطلعات الأممية بمشروعها الثوري العالمي تمثل فيما بعد بالحالم الثائر، ففي أدب حيدر هناك دائماً الصراع أو النضال من أجل الحرية ضد أي عدو كان: العدو الداخلي والعدو الخارجي..
لقد آمن حيدر بأن الحرية هي جوهر الفن- كما يقول صقور- ومن غير حرية لا يوجد فن، حرية الفلاح وانعتاقه من الاقطاع، حرية المرأة وتحررها من أدران المجتمع المتخلف، حرية المواطن من كل أشكال التعسف والظلم واستلاب الإرادة..من هنا جاءت أقاصيصه الأولى لتصور المحروم والمقعد والأمي، بشكل عام أناس القاع الاجتماعي في الريف في مجموعة «الومض» قصة حميمود كمثال..
لينتقل بعد ذلك صقور الى الحديث عن رواية «الفهد»التي تحكي عن البطل الشعبي بوعلي شاهين وصراعه ضد المحتل، وكيف التقط الكاتب هذه القصة الواقعية ليمزجها بالأسطوري ولتشكل ما يشبه الملحمة يفضح فيها الكاتب حال التخلف والفقر والقمع والاستزلام مجسداً لحظة الحرية في تمرد بوعلي شاهين واعلانه الحرب على النظام القائم والقيم التي يمثلها النظام الاقطاعي كلها، فاضحاً الخيانة في المجتمع، الخيانة التي يتعرض لها البطل من أقرب المقربين له ولتجهض بهذه الخيانة بداية ثورة لم يكتب لها النجاح..
كما نوّه صقور الى اصرار حيدر حيدر الدائم على ربط القول بالفعل  فهو ضد رفع الشعارات الطنانة من غير تنفيذ مستشهداً بذلك بقصة «طقوس العار»..
في الزمن الموحش ينتقل حيدر نقلة نوعية شكلاً ومضموناً، إذ تعد روايته علامة فارقة في أدبه من جهة وفي الرواية السورية العربية من جهة أخرى يقول صقور: هذه الرواية تعدّ بحق مرثية لحقبة أو مرحلة تاريخية بكاملها من تاريخ العرب الحديث، وتأتي قيمة هذه الرواية من موقفها الانتقادي المعمق للوضع العربي برمته ومن تنبؤاتها الصادقة للمستقبل العربي، لقد صور حيدر عبر «زمنه الموحش» حال العرب المتردي من خلال أبطال معطوبين علينا نحن القرّاء ان نتعلم من عطبهم مثل شخصيات سامر البدوي الشاعر الذي يضج بالحياة، وائل الأسدي: المثقف الذي تدجّنه السلطة وتحوله لجلاد، راني الحالم بكتابة رواية تفضح كل شيء، والذي يرى ان التحرر يبدأ من الجنس، مسرور المناضل الفلسطيني الواقع بين نارين: نار زوجته ونار العدو الصهيوني..
ومن خلال هذه النماذج تنداح ذاكرة الروائي ويفصح الراوي وتنطق  دمشق ويتجلى تاريخ العرب بعجره وبجره، بآلامه وأوهامه عن تطلعاته وأمانيه، وعن ظهور فئات واختفاء فئات أخرى، وتبقى شخصية الراوي هي المركز في دمشق التاريخ الأزلي، وفلسطين المغتصبة تبقى شاهدة على الهزائم.
ومن خلال نموذجين يحللهما الناقد، وهما نافذ علاّن في «حقل أرجوان» وبشر الغزاوي في (التموجات) ينقلنا الناقد الى رؤية حيدر للواقع الفلسطيني ومعاناته من خلال «لوحتين مرسومتين بفنية واتقان».
ففي الأولى: أي «حقل أرجوان» يقدم لنا البطل مترعاً بالحياة متشبثاً بالأرض، دينه النضال، واثقاً من نفسه مؤمناً بشعبه وقضيته بينما في اللوحة الأخرى يقدم لنا الآخر الفلسطيني المجوّف من الداخل المهزوم والبائس.
ويضيف صقور: وبغض النظر ان كنت توافق حيدر أو تخالفه في الجزئيات فإنه يبقى هو هو في كل ما كتب ويكتب ويبقى المقاتل الصلب من أجل الانسانية والعدالة والحرية.

ماذا قال حيدر حيدر؟!
أخيراً فتحت الندوة على الحوار وعلى أسئلة الحضور، حيث أجاب عليها حيدر حيدر متطرقاً في إجاباته الى عدة أمور منها:
إنه لا يفكر بالرقابة مطلقاً عندما يقوم بكتابة أعماله مؤكداً أيضاً أنه حين يعمد الى اختراق بعض التابوات فهو يخترقها من أجل التطهير وليس بقصد الإثارة.
لأن هناك مشكلات أساسية في حياتنا علينا التطرق لها، فمثلاً علاقة الرجل بالمرأة هي من المشكلات الأساسية والمعقدة جداً، وكذلك مشكلة فهم الدين، وكذلك المسألة المتعلقة بالسياسة فنحن -كما يقول حيدر- لا يمكننا الابتعاد عن الكتابة عنها، مشيراً الى ما لحق بروايته «وليمة لأعشاب البحر» من سوء فهم ومن اتهام باطل بأنها هجوم على الدين الاسلامي أو القرآن الكريم رغم أنها في جوهرها تنتصر للاسلام مستغرباً ان يقام مؤخراً في مصر احتفال في الأزهر الشريف بمناسبة مرور خمس سنوات على انتصارهم على منع طبع الرواية في مصر وبمشاركة«7000» طالب من الجنسين، وفوق ذلك تسميتهم الرواية «بالشيطانية»؟!!.
مشدداً على ان كل ذلك لم يؤثر عليه بحيث يردعه عن الاقتراب من المسائل الحساسة وإنما يُخضع الأمر برمته الى شيء اسمه المعيار الفني..
في روايته «شموس الغجر» يقول حيدر حيدر :«حين تهبط الظلمات من كل فج عميق، هل في الأفق أمل بضوء لنا نحن غجر هذا الزمان»..أخيراً لاأجد نفسي إلا ضامة صوتي الى صوته مضيفة هل سنصبح غجر هذا الزمان؟!!.

 

روزالين الجندي

المصدر: البعث

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...