في حضرة الشيخ الراقد على سفح قاسيون

27-09-2006

في حضرة الشيخ الراقد على سفح قاسيون

الجمل ـ تحقيق ـ  سعاد جروس: نصادف في الشارع الفرعي الواصل بين منطقة الجسر الأبيض وحي الشيخ محي الدين مفردات ترسم هوية المكان : شيخاً يأخذ قسطاً من الراحة تحت النوافذ القديمة، متسولاً يشق طريقه نحو الجامع، رائحة خبز التنور ولفيفاً من حكايا، وحجارة سوداء تتراصف آخذةً الخطى نحو الشارع التاريخي، حيث يقوم سوق الشيخ محي الدين، في منطقة الصالحية المستلقية على سفح جبل قاسيون، والتي أضحت اليوم واحدة من أحياء دمشق الشعبية. في هذا المكان لا تأخذ الزائر روعة العمارة ولا جماليات الفلكور، كما هي الحال في الحارات الدمشقية الواقعة ضمن السور القديم للمدينة، كحي النوفرة حيث الجامع الأموي، و القيميرية، ومكتب عنبر، وأبواب توما والشرقي والجابي والبريد ….إلخ. في حي الشيخ محي الدين  تحضر الأسطورة، وتحلق الروح تاركةً العقل يأخذ إغفاءته الجميلة. مع ابن عربي المدثر بالمعجزات، تنفتح آفاق الحلم ليصبح أقوى من الواقع،  كما هي في معتقدات أهل الحي. الحاضنين ضريح الشيخ الراقد على سفح الجبل منذ مئات السنين. ضريح تقصده جماهير من الدراويش والضعفاء والمساكين والفقراء وفاقدي الأمل، يلتمسون منه المساعدة والرجاء. من أجل هؤلاء قام سوق الشيخ محي الدين، الذي أصبح اليوم واحداً من أهم الأسواق الشعبية في دمشق، يقصده الناس من أنحاء عديدة، لخصوصيته الشديدة التنوع والغنى، والتي يتفنن أهلها بطرق العرض واجتذاب الزبون. حيث يتبارى الباعة بالمناداة على بضائعهم المفروشة بإغراء سخي. خضار مفروزة ومرصوفة حسب الجودة والسعر، وكذلك الفواكه، والزيتون والمخللات والأجبان واللحوم والأسماك والحلويات، إلى جانب الملابس المحلية  المكومة على البسطات والمتدلية من أعلى، بينما يتمدد على الأرصفة الزجاج المحلي والمستورد والمعلبات الأجنبية والبضائع المهربة، وكذلك أدوات الكهرباء والأواني البلاستيكية. ولعل سوق الملابس المستعملة هو الأكثر حركة في المكان، حيث ينفرد بزقاق فرعي مشمس، يختلط فيه البائع مع المشتري مع أكوام البضائع ضمن مشهدية  صاخبة تتداخل فيها الألوان والأشكال والأصوات : فالذي ينادي على البضاعة والذي ينبش ليجد ما يناسبه والتي تفاصل على السعر. شخص يلبس وآخر يخلع ، والكل يحتكم لآلية احتفائية تتناغم مع طبيعة السوق الشعبية المعبقة بروائح الخبز والفول، وصفائح اللحم، والحلويات الشهية المنبعثة من الأفران، المتفجرة نشاطاً صباحات أيام الجمع، هي و مطاعم الفول التي تشتهر بها المنطقة. يقبل على تلك المطاعم البسيطة، أهالي المنطقة ومتذوقو الفول من جهات عدة.  فسمير الحلبي صاحب أطيب طبق فول وأبسط مطعم في المنطقة يقول: مطاعم الفول عندنا تعمل ليل نهار طيلة أيام الأسبوع، مع أن الفول طبق صباحي كما هو معروف، لكن كثيراً من الكتاب والفنانين والمثقفين والسياح والغرباء عن المدينة يقصدوننا ليلاً لتناول الفول، أرى ذلك الإقبال للناس على منطقتنا وأتذكر المثل الشعبي: "إذا غاب الضاني عليك بالحمصاني".
 المتابع اليومي لحركة هذا المكان تلفته خصوصيته أيام الجمع حيث تبلغ أوجها في النصف الأول من النهار، بينما تخلد لسكون حلمي في النصف الآخر، بعد اختفاء شلالات البضائع، وغياب أي أثر للسوق سوى بعض النفايات والأكياس الفارغة، وشخوص لا يتعدى عددهم أصابع اليدين، يهيمون في رخاوة الهدوء. إنها مشاهد تتراكم في الذاكرة اليومية لتبني صورة غرائبية للمكان.
الاعتقاد والخرافة
في منطقة الشيخ محي الدين كل تفصيل يوحي بالسحر. حتى شخوصها تبدو كحكايات تتحلق وتدور حول الشيخ الأسطورة. واحدة من تلك الحكايات، محمود الرفاعي صاحب بسطة لبيع الجوارب، أخبرنا أنه حاصل على ماجستير بعلم الآثار و دبلوم في التربية وآخر بالشرق القديم.وهو يجد متعة كبيرة  في بيع الجوارب على بسطة يضعها أمام باب جامع، و يعتقد أن باب رزقه لا ينفتح إلا في هذا المكان من السوق، رغم مخالفته للقوانين، الأمر الذي عرضه للمصادرة من قبل الشرطة أكثر من مرة، وحاول إثرها الانتقال إلى زاوية أخرى. إلا انه لم يتمكن من البيع إلا في هذه الزاوية تحديداً، ومرد ذلك بركة الشيخ محي الدين. ومع أن الرفاعي يؤمن ببركة الشيخ ، لكنه يشكك في صحة الروايات الشعبية التي يتداولها أهل المنطقة عن معجزاته، ويرى أنها تنطوي على مغالطات تاريخية كبيرة كالقصة التي تجمع بين ابن عربي والشاعر عمر بن الفارض ، الأول عاصر بداية الدولة العثمانية بينما الثاني عاش في العصر العباسي.
تاريخ المنطقة
تعرف المنطقة حيث ضريح ابن عربي بمنطقة الصالحية،  وقد بناها (المقادسة)، وهم جماعة وفدت  من القدس إلى دمشق وتوطنت بداية حول جامع أبو صالح في منطقة باب شرقي، ثم انتقلت إلى المناطق الجبلية على سفح قاسيون، بعد تفشي مرض الطاعون بين أفرادها وهناك بنوا الصالحية، في العهد الزنكي.
قسمت منطقة الصالحية إلى قسمين، شمالي نهر يزيد، وجنوبي النهر، فكانت المنطقة الشمالية بعلية، توطن فيها الفقراء، والمنطقة الجنوبية مروية خصبة جعلها أغنياء دمشق منتزهات لهم في ذلك الحين. من أهم الملامح الحضارية في تلك المنطقة المدرسة العمرية والتي يجري ترميمها حالياً، وتعرف هذه المنطقة بغناها بالمدارس التي ترجع إلى القرنين السابع والثامن الميلادي، ويتجاوز عددها ال300 مدرسة جميعها لتعليم القرآن، ومستشفى القيمري المبني في القرن السادس وهو اقدم مستشفى شاخص حتى اليوم في العالم، ولا زال يستعمل مركزاً صحياً، إلى جانب جامع الحنابلة الذي يعود لعام 610 هـ وكذلك مسجد الشيخ محي الدين المبني جانب الضريح، على ضفاف نهر يزيد،  ولم يبق منه اليوم سوى آثار لناعورة مياه بعد أن جفت مياه النهر.
حكاية بناء الجامع والضريح
يقع جامع الشيخ محي الدين في منتصف السوق مقابل التكية السليمية نسبة للسلطان سليم الأول الذي بنى الجامع والتكية،في 1518 م ، ويقال أن السلطان سليم رأى الشيخ محي الدين في منامه وأمره ببناء مقام له فوق الضريح، وعندما سأله السلطان عن مكان قبره أجاب الشيخ اتبع بغلتك البيضاء وهي تدلك عليه.والعرف الشعبي عن السلاطين المسلمين يفيد بأنهم عادة ما كانوا يقتنون بغلة بيضاء تيمناً بالرسول. وتقول الحكاية أن السلطان سليم الأول تبع بغلته البيضاء فدلته على المكان الذي يعتقد أن الشيخ ابن عربي قد دفن فيه منذ 200 عام ولذلك يتداول العامة مقولة /عندما تدخل السين في الشين سيظهر سر محي الدين/ ، والسين يقصد به السلطان سليم والشين تعني الشام. ومعنى المقولة عندما يدخل السلطان سليم بلاد الشام سينكشف سر الشيخ الجليل ويعظم شأنه بين العامة.
من هو ابن عربي
ساهم التداول الشفهي لأخبار العلماء والمشاهير وتناقلها عبر الأجيال في خلط الأحداث والشخصيات إلى جانب غياب الدقة العلمية والتاريخية عن تلك الأخبار كحكايته مع ابن الفارض، التي تقوم على الخرافة .
 الكتب التاريخية الموثقة تثبت بأن الشيخ محي الدين بن عربي هو أبو بكر محمد بن علي الطائي الملقب محي الدين من أحفاد حاتم الطائي، ولد في مرسية عام 560هـ  وتروي الكتب سيرة انتقالاته بين الشرق والغرب. فقد ارتحل من مرسية سنة 568 هـ إلى أشبيلية مع عائلته والتقى فيها مع ابن رشد مرتين وذكر الحوار الذي دار بينهما في فتوحاته المكية. غادر اشبيلية في 598 هـ  متوجهاً إلى المشرق. وكانت أولى محطاته في مراكش حيث صادف وفاة ابن رشد. نزل بجاية، في الجزائر اليوم، وفيها رأى مناماً انه تزوج جميع النجوم والكواكب . ثم أضيفت إليها الحروف فتزوجها كلها أيضاً..  ثم توجه إلى مصر وأقام في زقاق القناديل، بجوار مسجد عمرو بن العاص، وهناك تلقاه العلماء ورجال الفقه بالجفاء، فلم ينالوا من مكانته شيئاً. حل بالحجاز من ثم مضى إلى العراق حيث اجتمع بالشيخ عمر السهروردي،  الذي قال عنه: أنه بحر الحقائق، أما أبن عربي فقال عن السهرودي:  أنه مملوء سنة من رأسه إلى قدمه. من الموصل توجه ابن عربي إلى حلب، ثم صعد الأناضول،. من ثم عاد إلى حلب واجتمع بحاكمها الظاهرغازي بن صلاح الدين، وكان الشيخ  يعرض على السلطان حوائج يقدمها أهل حلب فيقضيها كلها، مع أن في هذا السلوك مخالفة لخط المعارضة الصوفي. استقر رحال الشيخ في دمشق ولم يغادرها حتى وفاته سنة 638 هـ  16 تشرين الثاني 1240 م  عاش مع زوجته مريم وولداه سعد الدين وعماد الدين. وفي رسالة لعلي بن كمال الدين أبى المنصور الازدى الأنصارى وصف للشيخ محي الدين يقول: "رأيت في دمشق الإمام العارف الوحيد  محي الدين بن عربي وكان من أكابر علماء الطريق، جمع بين العلوم الكسيبة،  وما وفر له من العلوم الوهيبة، ومنزلته شهيرة وتصانيفه كثيرة، وكان غلب عليه التوحيد علماً، وخلقاً، وحالاً لا يكترث بالوجود مقبلاً كان أو معرضاً ".
ألف أبن عربي 400 كتاب ورسالة ومؤلفه الأكبر (الفتوحات المكية) ضمنه ما فتح عليه من الأفكار في مكة وأقدم طبعاتها في مصر 1910 بتوصية من الأمير عبد القادر الجزائري ومن أنفس مؤلفاته بعد الفتوحات (فصوص الحكم ).
ابن عربي في الموروث الشعبي
أحيطت شخصية الشيخ محي الدين بهالة من الأساطير تناقلتها الأجيال في الموروث الشعبي، وأعطته ملامح إلهية خارقة، ترتكز أساساً على سعة العلوم والمعارف التي اكتسبها الشيخ في زمن كان العلم فيها حكراً على نخبة القوم. كان رمزاً كبيراً من رموز الكشف وعالم المعنى أو العرفان، والمتعمق في فكر ابن عربي كالسائر في طريق وعر، وذلك لأسباب تعود إلى منطلقات ترتبط بفكر أبن عربي نفسه، وأخرى خارجية لها صلة بكيفية التعاطي مع أفكاره. إذ ما تزال تلقى صدوداً في أروقة الفكر الإسلامي، ومما يؤكد ذلك صدور 138 فتوى ضده من قبل فقهاء ومتكلمين وحكماء،  وساهم ذلك الصدود في إيصال مقولات وممارسات مشوهة عن أبن عربي إلى العامة، وفي كثير من الأحيان يخلطون بينه وبين القاضي الفقيه الأندلسي أبي بكر محمد بن عبد الله المعافري الاشبيلي (468 ـ 543 هـ) المعروف بابن العربي. كما أن البعض ممن يجهلون الجانب العلمي عند ابن عربي، يعتقدون باطلاعه على الأسرار الإلهية، مما كرّس في العقل الجماعي الشعبي تصوراً عظيماً حول كرامته عند الله . ويتمثل هذا التصور في سلوك زوار ضريحه، الذي يقصده المساكين وخائبو الرجاء من جهات مختلفة ليشفع لهم. وكثير من الناس يتعاطفون مع الشيخ محي الدين لظنهم بأنه مات شهيد السلطات المستبدة، رغم أن التاريخ يؤكد وفاة الشيخ محي الدين على فراشه بعد بلوغه سن الشيخوخة، كما ورد في سيرة حياته المدونة على جدران الضريح، إلا انهم ينسبون إليه حادثة عرفت عن الحلاج، وهي أن ابن عربي وقف أمام الناس وصاح بهم: دينكم ديناركم ومعبودكم تحت قدمي هاتين فقتلوه، وجاء بعدها العلماء وسألوا عن سبب القتل، وطلبوا حفر الموقع الذي قال فيه ابن عربي ذلك القول، فوجدوا جرتين مملوءتين بدنانير من ذهب، فأنبوا القتلة وقالوا لهم ،كان بقوله يقصد المال الذي تتخذونه كمعبود لكم.
العلاقة مع الأولياء
ربما ما جعل صورة الشيخ الأكبر في أذهان البسطاء تبدو شديدة الغموض تعمقه في فلسفة الحروف وإتقانه استعمال اللغة واستنباط معانيها والإيحاء من خلال المفردات المتشابهة كتابة والمختلفة لفظاً ورصفها في إيقاع متناغم شديد الدلالة، كحال الأدب الصوفي. وتحول ذلك الغموض على مر الزمن إلى حكايات تؤكد قدرته الإلهية على حل العقد والإشكاليات الوجدودية كالحياة والموت، كما أنها دخلت في صلب العقائد الروحية الشعبية، ليصبح إحدى الشخصيات المقدسة في الأديان التوحيدية، مع أن الشيخ ابن عربي يؤكد في فلسفته على أن المرء لا يؤتى عليه بخير أو شر إلا منه، فالتعلق بالغير لا ينفعه. وهذه الفلسفة تتنافى مع سلوك العامة في العلاقة مع الأنبياء والأولياء، حيث يقفون لفترات طويلة على عتباتهم مرددين الدعاء، وهذا ما نراه في ضريح الشيخ محي الدين الذي يتدفق إليه الناس من أنحاء شتى يناشدونه حل مشكلاتهم المعقدة، أو ليشفعوا لأمواتهم، فيطعمون الجياع على باب الجامع لاعتقادهم بأن (اللقم تدفع النقم)، ويزكون بالمال للفقراء ليرضى عنهم الشيخ. وثمة اعتقاد يقول بأن من يقصد الشيخ أربعين مرة متتالية أيام السبت عند آذان الصبح ينال طلبه وتتحقق أمنياته. وتؤكد العامة تلك الاعتقادات بالحديث الشريف "العلماء ورثة الأنبياء"
عند الضريح
في الفسحة المحيطة بالضريح يركع زوار الشيخ ومريدوه ليؤدوا الصلاة، وهناك يحضر الشيخ من خلال المقام الرخامي المزجج والمنار بأضواء خضراء خافتة تضفي نكهة روحية على ألوان سجادة الصلاة المفروشة على حجر المقام، المتصاعد من حوله روائح البخور، كما هي الأجواء دينية في دور العبادة. حيث يتدور المكان كحلقة ذكر تتواتر فيها الألوان، والروائح، و الابتهالات ،والصور، والآيات الدينية المعلقة على الجدران، في حلقات صوفية تذكي الحضور القوي لشخص الشيخ في المكان ونفوس زواره، المتوزعين على قسمين يفصل بينهما ستار أخضر من القطيفة أحدهما للرجال والآخر للنساء. من جانب الضريح نطل على مشهد حميم يتألف من مجموعة نساء ملفعات بعباءات سوداء، ومجموعة رجال بملابس بسيطة، وكل فرد في المجموعتين يأخذ مكاناً بالكاد يفصله عن الآخرين لينفرد بالحديث إلى الشيخ بعد أن يلقي عليه التحية من خلال الزجاج، أو يرمي قطعة نقدية كتبرع للمقام. في الخلوة مع الشيخ يبث الزائر همه صامتاً. وهو حان رأسه بجوار خمسة أضرحة تقوم إلى جانب ضريح الشيخ الأكبر، اثنان لولديه سعد الدين وعماد الدين وقد علاهما عمامتاهما، وثالث لعبد القادر الجزائري، الذي نقلت رفاته إلى الجزائر منذ عدة سنوات، ورابع وخامس لاثنين من خادميه. يروي خادم الجامع الحالي زهير الملك قصة دفن أحدهما واسمه أمين المتوفى في منتصف القرن الحالي. لقد أوصى الشيخ أمين بدفنه إلى جانب ضريح الشيخ محي الدين، وعندما أراد القائمون على الجامع تنفيذ الوصية، عارضت وزارة الأوقاف ذلك، وأمرت بإغلاق الباب، ولما أراد الناس رفع النعش والعودة به من عند العتبة، لم يتمكنوا من رفعه، فوقف أحدهم وهو من مريدي الشيخ محي الدين وصرخ قائلاً: يا سيدي محي الدين إذا كنت تريد الشيخ أمين أن يدفن إلى جوارك فافتح له الباب؟ .  وفي الحال تكّسر الباب ونزل النعش إلى القبر خلال دقيقتين. يتابع الشيخ زهير الملك كلامه عن الشيخ الأكبر، لا يوجد إنسان قصد الله وقال يا رب كرمى لسيدي محي الدين إلا وأجابه على سؤاله فكرامته كبيرة عند الله، وكثيرة حالات شفاء المرضى في هذا المكان فالذي يعجز عنه الأطباء يشفيه الله كرامة للشيخ الأكبر.
تلك الحكايا تسير في شوارع منطقة الشيخ محي الدين بسخاء مقرونة بالدهشة والتبجل، الناجمين عن العقل الخرافي للعامة التي تتمنى أن تكون تلك القصص حقيقية كون الإنسان بحاجة ماسة إلى شفيع يجعل تقبله للحياة أسهل.
في الجامع
وزائر الضريح لابد له من دخول الجامع الكبير الذي يقوم إلى جوار الضريح، حيث يصادفه في بهو المكان دراويش ومعكتفون يقيمون الصلاة ليل نهار ، مرددين أسماء الله الحسنى، بتواصل مع حبات سبحاتهم المعلقة على صدورهم والمتدلية من بين أصابعهم.
 تحت ظلال الأعمدة الرخامية والقناطر العثمانية جلس فايز الرفاعي واحد من المعتكفين في الجامع بجوار نافذة مشرفة على الناعورة الأثرية القائمة على نهر يزيد، يردد صلاته بصوت يشبه حفيف الورق، يحرك شفتيه بآلية مرتجفة. بين فترات صلواته أخبرنا الرفاعي :أنه معتكف هنا إلى ما شاء الله يخدم في الجامع، ويعيش من خيره، أما عن مدة الاعتكاف المتبعة أصولاً، قال: أنها تتعلق بالمعتكف ذاته، والمدة التي حددها بنذره، هناك من يعتكف ساعتين، وهناك من يعتكف لأشهر، وربما سنوات، وإذا التزم شخص ما بالاعتكاف، وله حاجة خارج الجامع بإمكانه أن يقضيها ويعود ليواصل صلاة اعتكافه، وهي عادة ما تقوم بين أوقات صلاة الفروض، أو تكون متواصلة طيلة اليوم. عن سبب اختياره جامع الشيخ محي الدين للاعتكاف قال: إن الإنسان المعتكف يبحث عن مكان مناسب للاختلاء يمكنه عمل جلوة لقلبه وصفاء لعقله، ليركز فقط على الصلاة، والوجود لرب الوجود وتذكر الحياة والموت معاً، والمساجد أفضل مكان لذلك، وفي  جامع الشيخ محي الدين أشعر بتواصل مع الله . كما استفيد من المكتبة الغنية الموجودة في الجامع والحاوية على أمهات الكتب الفكرية، والدينية الإسلامية وغالبية مؤلفات الشيخ الأكبر ابن عربي.           
النذور والتكايا
مكانة ابن عربي العظيمة عند الدمشقيين جعلتهم يقدمون له القرابين والأضاحي فيما يعرف  بالنذر فمنهم من يقدم شمعة ومنهم من يقدم خروفاً أو يتبرع بأنواع عديدة من الطعام أو كميات من الخبز وجميعها تسلم للقائمين على التكية السليمية القائمة قبالة الجامع الكبير. في هذه التكية يحضر حساء الشيخ محي الدين، ويوزع على الفقراء والجياع فجر كل يوم خميس مع "الهريسة"، وهي أكلة دمشقية شهيرة، تتكون من اللحم والقمح المهروس. في السنوات الماضية اعتادت المنطقة على فتح أبواب التكية يومياً من الثامنة صباحاً وحتى الظهيرة، ليوزع فيها الخبز والطعام ما عدا يومي الثلاثاء والاثنين اللذين يوزع فيهما "الحلاوة الطحينية" أو "الإلماسية" ، وهي سكر وحليب ونشا إلى جانب الرز المفلفل ، أما يوم الأربعاء فكان يوم العطلة. لكن تلك التقاليد تغيرت بسبب انشغال المكان بأعمال الترميم، حيث اقتصر توزيع الطعام على نهار الخميس والخبز باقي صباحات الجمع من الأسبوع.
الخارج من عوالم منطقة الشيخ محي الدين بأسواقها ومطاعمها وأفرانها و تكاياها وجوامعها ومدارسها وحماماتها كالخارج من قصص ألف ليلة وليلة محملاً بذاكرة يستجم فيها العقل في عالم غني تتداخل فيه الأحلام بالرؤى والأفكار بالأساطير، الخيال بالواقع. على عتبة هذه العوالم يقف المتعلم، والأمي، المثقف العلماني، ورجال الدين، والدراويش، الشاعر المتصوف، والحسي، وكل منهم يناشد عالمه الخاص الملون بالتصوف. فهنا وقف هادي العلوي  مراراً لأداء صلاته الكنفوشية،  وحدث ابن عربي، بل وعاتبه لخروجه عن سلوك المتصوفة بعض الأحيان، كما ذكر في مدارته الصوفية. وفي المكان ذاته لا تزال أرملة المفكر هادي العلوي أم الحسن، توزع الخبز على الفقراء وتتبرع للمقام وفاءً لذكرى زوجها شيخ متصوفي العصر. وفي المكان ذاته أيضاً طلب البياتي أن يدفن مجاوراً لشيخه الأكبر الذي نهل من تصوفه دواوين شعر عدة… كثيرون مروا  وقفوا هنا، وتركوا ذكرياتهم وأحلامهم ورجاءاتهم.. تعمر ذاكرة المكان و ترسم قول ابن عربي :
                      لكل عصر واحد يسمو به      وأنا لباقي العصر ذاك الواحد

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...