" سورية عام من الأزمة".. وثيقة دامية أرخ لها نبيل صالح

02-06-2013

" سورية عام من الأزمة".. وثيقة دامية أرخ لها نبيل صالح

“ربع قرن من الكتابة قضيته بين المعارضة والسلطة، وكنت أقرب إلى الأولى، حتى اكتشفت أنّ أمراضها أكثر خطورة من الثانية؛ إذ إنهما جاءتا من بيئة مشتركة الجراثيم، فابتعدت عن كليهما بمقدار ما يحميني من العدوى”. فاتحة لكتاب عُمر وتاريخ حياة جَربت الكثير، ومازالت على محك التجربة، استظهرهُ عن ظهر ألم وحزن، الكاتب والصحفي العتيق “نبيل صالح” برؤية واضحة المعالم، بعيداً عن مهيّجات البصر لغباشة المشهد السوري العام منذ بداية الأزمة السورية 2011 حتى توضّح المناخ الفجائعي الذي تعوي بزواريبه السيدة “حرية الحمراء“ المضرجة بدم السوريين، رغم أنّ “صالح” من الذين قرؤوا تداعيات هذا المشهد منذ بداية ما سمّي الربيع العربي، وأدرك، بحسّه العالي، أنّ الحكاية ليست قصة الرمانة؛ بل الموضوع أبعد من ذلك بكثير.

الدماء البريئة والبيادر المحروقة والطفولة المشردة والعهر الإعلامي النفطي الذي يبول على النار السورية دون توقّف لتستعر، هي ما دفع نبيل صالح إلى إصدار كتابه “سورية عام من الدم”.. مجازياً، نستطيع أن نسمي منجز صالح “كتاب”، لكنه، في حقيقية الأمر، مجموعة من المقالات والقراءات التي كتبها صاحب “شغب”، منذ بداية الأزمة السورية في موقعه الجمل، ومنها ما هو أقدم تاريخياً، لكنّه يصبّ في المياه الآسنة ذاتها، إلا أنّه قرر، بعد نقاشات وحوارات دارت بينه وبين العديد من المثقفين السوريين، ومنهم من هو في “اتوبيس” المعارضة، حول أهمية تلك المقالات في توضيح بعض الجوانب المواربة للواقع السوري؛ أن يجمعها في كتاب كوثيقة تاريخية مؤرشفة عن الراهن السوري الدامي بعين راصد موضوعي لا حزب يؤدلجه، ولا دين يحرك غريزة قلمه.
على الرغم من قراءتي الكتاب منذ حوالي العام، إلا أنّني أرتأيت تقديمه في هذا الوقت بعد قراءته مراراً؛ لأنّ الألم والحزن المبطّنين بالسخرية اللاذعة التي عرف بها صاحب “كيفما اتفق”، التي أوقف إثرها عن العمل لمدّة ستة أشهر، لا ينكشفان بتجرّد من القراءة الأولى، ولا يمنحانك، كقارئ حيادي، أبعادهما الحقيقية إلا بعد أن تعيد تركيب البزل السوري الراهن، ومن ثمّ تنظر إلى اللوحة العامة من وجهة نظر جشتالتية، فلسنا هنا بصدد الحديث عن كتاب له شروطه الفنية المتعارف عليها؛ بل نحن أمام قراءات مرتبطة بالزمن وبالوعي الإدراكي لصاحبها المقترن بزمن كتابتها خصوصاً أنّها تتحدّث عن موضوع نستطيع أن نصفه بالنار المتشظّية التي لم يسلم منها أيّ سوري حتى اللحظة؛ نار الفتنة التي استيقظت بعد عهود من إعطائها جرعة مهدّئات دون دراية بأنّها بحاجة إلى إجراء علاجي حقيقي تغاضت عنه حكوماتنا التي خاطبها صاحب “بكلّ مودة” مراراً بهذا الشأن دون أن يحصد إلا الإيقاف المتكرّر عن العمل، ومنها، مثلاً، عندما كتب: “لقد غدا نفق الثورة يشبه بوري الصوبيا، وهو بحاجة إلى تنظيف”، فما كان من المحافظ ومتعهديه حينها، إلا القيام بتجديد رخام نفق الثورة دون الانتباه إلى المعنى الحقيقي للجملة. من وجهة نظر شخصية، أستطيع فهم هذه الآلية في الفهم لدى مسؤولينا، كونهم تعاملوا مع مناصبهم كما تعامل الولاة العثمانيون في الأطراف البعيدة عن المملكة العثمانية بنهب خيراتها، باعتبار أن وجودهم في المنصب مؤقت، ولن يطول، ومن المؤسف، هذا ما كان عند الكثيرين منهم، دون أن يدركوا أنّ المنصب مسؤولية، وليس امتيازاً.
يقارب “صالح” مجريات اليوم بوقائع من التاريخ الإسلامي لتوضيح فكرة غاية في الأهمية، خصوصاً بعد أن رفع كلّ من يريد الدمار لهذا البلد تعاليم الإسلام وفرائضه شعاراً له، دون أدنى دراية حقيقية بطبيعة تلك التعاليم، لذا سنقرأ في “سورية عام من الدم” العديد من الإسقاطات التاريخية على الواقع السوري؛ إن كان من القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية أو تعاليم الخلفاء الراشدين والسلف الصالح، في محاولة من الكاتب لتنبيه الناس إلى طبيعة الدور الخطر الذي يضطلع به جهّال الدين، والدور الأخطر الذي لعبوه بتزكية نار الفتنة عندما قاموا بإطلاق فتاوٍ ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تصدر إلا عن وعي ملوث بالبترودولار والحقد الأعمى، كما فعل القرضاوي والعرعور الحاضرين في الكتاب الآنف الذكر، خصوصاً بعد الفتاوى التي أطلقوها، وتمّ بعدها سفك دماء سورية بريئة لمرجعيّتها الدينية تحت غطاء الحرية المهترئ.
إذاً، بقلب ذبيح ممّا يجري في سورية، وما يجري بأهلها الطيبين، يقف نبيل صالح في كتابه “سورية عام من الدم” على مسافة واحدة من الوطن، لا من حكومة، ولا من معارضة، يقف مع سوريّته أولاً، التي تربّى في حواريها وقراها، وتعلم في مدارسها وجامعاتها، ورأى في كلّ بيت سوري بيته، وفي كلّ رجل صالح وأمّ نبيلة أباه وأمه، رافعاً صوته عالياً بعد أن وهبه الله عمراً فائضاً، عندما أخطأته ثلاث رصاصات سعت لإسكات صوته؛ عمراً قرّر فيه أن يجعل من قضايا الناس قضيّته الشخصية، ليقول: هذا الوطن لنا جميعاً، تدمينا أوصاله المقطعة، ويؤلم أرواحنا حتى العظم منظر كلّ دمٍ سوري مسفوك، لكنّه يدرك، أيضاً، بخبرته الطويلة في الحياة والمماحكة اليومية لعمله الصحفي الساخر أنّ القضية الآن ليست قضية نظام أو شخص، بقدر ما هي إرادة مسعورة تقف وراءها إسرائيل وأمريكا والمستعربون اللاهثون لتحطيم المرآة السورية، لأنّها تذكّرهم بقبحهم المتدلّي من عقال يَشر من طرفيه حقدهم الأسود لتدمير دولة غنيّة بحضارتها وعراقة شعبها وقدرها المحتوم بمناصرة القضايا المحقة للشعوب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. شعب لم يكن في يوم من الأيام ذي نهج تكفيريّ حتى لو صعدت أصوات من هنا وهناك تنبح بذلك، ولا تعبر إلا عن لسان سيدها وجيوبها. كما أنّ نبيل صالح يعبر، بطريقته الخاصة، عن المؤسسة التي يحترم ويجلّ لمعرفته بهويتها الوطنية الصافية، وهي المؤسسة العسكرية (الجيش العربي السوري) الذي يضمّ، في صفوفه، كلّ أطياف المجتمع السوري المقاوم، والذي يعمل بدأب نادر يبذل فيه الغالي والأغلى للحرص على سلامة الوطن ووحدة أرضه وشعبه، موضحاً أنّ تلك المؤسسة العقائدية هي الخط الأحمر الحقيقي، حيث ما من شيء في الدنيا يبرّر قتل أبنائها واستباحة دمائهم الطاهرة.
“سورية عام من الدم” مجموعة من المقالات الوجدانية الإنسانية التي هي، في حقيقتها، لسان حال كلّ سوري مؤمن بيقين راسخ بأنّ الأوطان لا تبنى من الجماجم، بل بالمحبة والألفة حتى لو سها الوطن وغفل عن سقاية جذع سيجف، أو تباطأ في إنزال عبء مرهق عن كاهل مثقل بالهموم، شأنه في ذلك شأن الأم عندما تغطّ أحياناً في نوم عميق ساهية عن ابنها الجائع، إلا أنّ نور الصباح وحبّها الأكيد سيوقظها لترضعه وتدثّره لا محالة.


تمام بركات

جريدة بلدنا

التعليقات

الأستاذ النبيل الصالح... هويتك السورية طاغية في كل ما قرأت لك على مدى العامين الكارثيين على بلدنا. الرسم رائع جداً. (الجمل): شكرا يانور، والرسم للصديق الفنان المغترب في اليونان مصطفى علوش وقد سبق أن نحت لي تمثالا نصفيا قبل عشرين عاما عندما كنا في الجيش ثم دمرته أختي الصغيرة بسبب الغيرة..

يستطيع الاستاذ تمام بركات بأسلوبه الشعري حتى في المقالة أن ياخذك إلى عوالم اخرى فيها الكثير من الإحساس العالي ..فما بالكم عندما يتحدث عن منجز رائع للكاتب النبيل "نبيل صالح"..قراءة رائعة لكتاب رائع.

المقال أوضح صفحات الكتاب سوريا عام من الدم .. فشكراً لمؤلف الكتاب وشكراً لكتاب المقال وجريدة بلدنا والشكر موصول لموقع الجمل النافذة الاكثر مصداقية على الواقع

لم تكتب يوما بحبر شكراً أيها النبيل الصالح على حروف كتبتها لتوثق لكل دم روى أرض سورية وأحزن على الزمن الطويل والوقت المؤلم الذي احتاجوه ليفهموا كم أنت سوري عظيم لك ولأمثالك فرح النصر القريب القادم

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...